ماذا لو لم يكن الانفجار العظيم البداية؟ تشير أبحاث جديدة إلى أنه ربما حدث داخل ثقب أسود.

لعقود، شكّلت نظرية الانفجار العظيم حجر الزاوية في علم الكونيات، محاولتنا الأمثل لتتبع أصل الكون. ووفقًا لهذا النموذج، انبثق كل شيء إلى الوجود قبل حوالي 13.8 مليار سنة من نقطة ذات كثافة لا متناهية، وتوسع بسرعة في الكون الذي نعرفه اليوم. لكن التطورات النظرية الحديثة تشير إلى أن هذه "البداية" ربما كانت استمرارًا لشيء أقدم بكثير وأكثر تعقيدًا. ماذا لو لم يكن الانفجار العظيم ولادة كل شيء، بل كان تحولًا جذريًا للمادة والزمكان داخل ثقب أسود - ثقب ينتمي إلى كون أصله؟

صورة بواسطة Alain r على wikipedia

كون يولد داخل ثقب أسود؟

يعيد هذا المفهوم البديل تصور الثقوب السوداء كأرحام كونية، وليست وجهات نهائية. ووفقًا لبعض الفيزيائيين، عندما تنهار المادة تحت تأثير الجاذبية لتكوين ثقب أسود، فإن التفرد الناتج ليس بالضرورة هو نقطة النهاية التي تتنبأ بها النسبية العامة. بل قد يكون بيئة عالية الطاقة حيث تلعب التأثيرات الكمومية دورًا، مما قد يمنع الانهيار التام ويؤدي إلى "ارتداد". قد يؤدي هذا الارتداد إلى تكوين منطقة جديدة من الزمكان - كون جديد كليًا. ينعزل الجزء الداخلي من الثقب الأسود، خلف أفق الحدث، عن الكون الأم. إذا توافرت الظروف المناسبة، فقد يحتوي على نسخته الخاصة من الزمان والمكان، والتي تتوسع بسرعة كبيرة كما حدث في كوننا المبكر. في هذا المنظور، قد يكون كوننا هو الجزء الداخلي لمثل هذا الثقب الأسود - ثقب أسود تشكل من انهيار نجم أو بنية مجرية في عالم كوني آخر.

أصداء من ما قبل الزمن؟

تجبرنا هذه النظرية المدهشة على إعادة النظر جذريًا في مفهومنا لما يُسمى بـ "البداية". فلو أن كوننا قد نشأ فعلاً داخل ثقب أسود، فإن ذلك يشير ضمنيًا إلى وجود كونٍ أسبق، واسعٍ ومعقد، وفّر السياق والظروف لولادة كوننا الحالي. لم يعد الزمن يبدأ من الانفجار العظيم كما كنا نعتقد، بل يبدو أنه استمر بسلاسة من خط زمني سابق، تابع لذاك الكون الأم، مما يربك تصوراتنا التقليدية عن نقطة الانطلاق الأولى. هذا التحول في الفهم يلقي بظلاله على علاقتنا بفكرة "الفرادة" الكونية. كوننا، وفقًا لهذا التصور، ليس ظاهرة فريدة أو وحيدة، بل قد يكون مجرد فصل ضمن ملحمة كونية لا بداية لها ولا نهاية، سلسلة من الأكوان تتوالد من بعضها البعض عبر آلية نشوء ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالثقوب السوداء. ويتشابك هذا التصور مع المفاهيم المثيرة في نظريات الأكوان المتعددة، حيث يُحتمل أن يكون كل ثقب أسود بمثابة بوابة إلى كون جديد.

صورة بواسطة NASA / WMAP Science Team على wikipedia

هذه الأكوان، المتولدة باستمرار، قد تتنوع في قوانينها الفيزيائية، وأبعادها الزمكانية، وحتى في إمكانية احتضانها لأشكال من الحياة تختلف كليًا عما نعرفه. نموذج "التضخم الأبدي"، الذي يشير إلى استمرار عملية التمدد وولادة الأكوان بشكل كسوري، يرسم صورة ساحرة لعالم كوني متشعب، أشبه بشجرة أنساب كونية مترامية الأطراف، حيث تتفرع العوالم من بعضها البعض في عملية خصبة لا تنتهي من الخلق. وهكذا، لا تعود "البداية" حدثًا محددًا في لحظة زمنية معينة، بل تصبح لحظة انتقال، عبور من طور إلى آخر، ضمن نسيج كوني يتنفس بلا توقف. الأمر يشبه لحنًا لا ينتهي، يتردد صداه عبر الزمكان، ونحن فقط نسمع مقطعًا صغيرًا منه في كوننا الحالي.

الثقوب السوداء كمهد للخلق

تدعو هذه النظرية إلى إعادة تقييم جذرية للثقوب السوداء نفسها. فبدلاً من أن تكون فراغات مدمرة، قد تكون مولدات قوية لحقائق جديدة. من هذا المنظور، ليس الثقب الأسود مقبرة للمادة، بل تحولها إلى شيء أكبر بكثير. يمكن أن يُحدث الانهيار التجاذبي تأثيرات كمية تدفع ضد الضغط الكلي، مما يُسبب ارتدادًا يُطلق التضخم الكوني – وهي العملية ذاتها المرتبطة بنشأة كوننا. بل إن بعض النماذج الرياضية في فيزياء الكم تشير إلى أن هذا "الارتداد" ليس فقط ممكنًا، بل قد يكون شائعًا في كون متعدد الأكوان. حتى أن بعض الباحثين يقترحون أن خصائص الثقب الأسود – مثل كتلته ودورانه وشحنته – يمكن أن تؤثر على خصائص الكون الذي يُولده، محددة بذلك نسيج الزمكان الجديد. هذا يعني أن الثوابت الأساسية، مثل قوة الجاذبية أو كتل الجسيمات الأولية، قد تختلف اختلافًا طفيفًا من كون إلى آخر، مما يُنتج تنوعًا هائلًا في الأكوان الممكنة. وهذا يُؤدي إلى فكرة "الانتخاب الطبيعي الكوني"، وهو مفهوم تصبح فيه الأكوان التي تدعم تكوين الثقوب السوداء أكثر شيوعًا بمرور الوقت، مُشكلةً مشهدًا تطوريًا على نطاق كوني يبدو أكثر قربًا من علم الأحياء منه إلى الفيزياء.

صورة بواسطة NASA, ESA, and J. Lotz, M. Mountain, A. Koekemoer, and the HFF Team (STScI) على wikipedia

البحث عن أدلة في الوهج اللاحق

على الرغم من طبيعتها المُحيرة للعقل، إلا أن هذه الفرضية تهدف إلى نتائج قابلة للاختبار. يدرس العلماء عن كثب إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB)، وهو الوهج الخافت المتبقي من الانفجار العظيم، بحثًا عن شذوذات قد تعكس فيزياء ما قبل الانفجار العظيم. على سبيل المثال، قد تُشير أنماط مُعينة في درجة حرارة واستقطاب إشعاع الخلفية الكونية الميكروي إلى سمات موروثة من كون سابق أو تشوهات ناجمة عن سيناريو الارتداد. علاوة على ذلك، تُقدم التطورات في الجاذبية الكمومية، التي تسعى إلى توحيد النسبية العامة مع ميكانيكا الكم، تدريجيًا أطرًا رياضية جديدة لفهم ما يحدث في قلب الثقوب السوداء. يستكشف الباحثون مفاهيم مثل الجاذبية الكمومية الحلقية، ونظرية الأوتار، والتصوير المجسم لنمذجة هذه البيئات المتطرفة ووضع تنبؤات يُمكن استكشافها في عمليات الرصد المستقبلية. وبينما لا يُمكننا حاليًا النظر مباشرةً داخل الثقوب السوداء أو ما بعد عصر بلانك (المرحلة الأولى من الكون)، فإن التطورات في تكنولوجيا التلسكوب وتحليل البيانات قد تكشف في النهاية عن بصمات خفية تدعم - أو تُشكك - في هذه النظرية الجريئة.

toTop